فصل: فَصْلٌ: حُكْمُ النَّذْرِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (نسخة منقحة)



.فَصْلٌ: حُكْمُ النَّذْرِ:

(وَأَمَّا) حُكْمُ النَّذْرِ فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوَاضِعَ: الْأَوَّلُ فِي بَيَانِ أَصْلِ الْحُكْمِ، وَالثَّانِي فِي بَيَانِ وَقْتِ ثُبُوتِهِ، وَالثَّالِثُ فِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ ثُبُوتِهِ.
- أَمَّا أَصْلُ الْحُكْمِ فَالنَّاذِرُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ نَذَرَ وَسَمَّى، أَوْ نَذَرَ وَلَمْ يُسَمِّ، فَإِنْ نَذَرَ وَسَمَّى فَحُكْمُهُ وُجُوبُ الْوَفَاءِ بِمَا سَمَّى، بِالْكِتَابِ الْعَزِيزِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَالْمَعْقُولِ.
(أَمَّا) الْكِتَابُ الْكَرِيمِ فَقَوْلُهُ- عَزَّ شَأْنُهُ- {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ}، وقَوْله تَعَالَى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا}، وَقَوْلُهُ- سُبْحَانَهُ-: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إذَا عَاهَدْتُمْ}، وَالنَّذْرُ نَوْعُ عَهْدٍ مِنْ النَّاذِرُ مَعَ اللَّهِ- جَلَّ وَعَلَا- فَيَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ بِمَا عَهِدَ، وَقَوْلُهُ- جَلَّتْ عَظَمَتُهُ- {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} أَيْ الْعُهُودِ، وَقَوْلُهُ- عَزَّ شَأْنُهُ-: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ} إلَى قَوْله تَعَالَى: {بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ} أَلْزَمَ الْوَفَاءَ بِعَهْدِهِ حَيْثُ أَوْعَدَ عَلَى تَرْكِ الْوَفَاءِ.
(وَأَمَّا) السُّنَّةُ فَقَوْلُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ تَعَالَى فَلْيُطِعْهُ»، وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ نَذَرَ وَسَمَّى فَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِمَا سَمَّى»، وَعَلَى كَلِمَةُ إيجَابٍ، وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ»، وَالنَّاذِرُ شَرَطَ الْوَفَاءَ بِمَا نَذَرَ فَيَلْزَمُهُ مُرَاعَاةُ شَرْطِهِ، وَعَلَيْهِ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ.
(وَأَمَّا) الْمَعْقُولُ فَهُوَ أَنَّ الْمُسْلِمَ يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَتَقَرَّبَ إلَى اللَّهِ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بِنَوْعٍ مِنْ الْقُرَبِ الْمَقْصُودَةِ الَّتِي لَهُ رُخْصَةُ تَرْكِهَا لِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ الْمُعَاقَبَةِ الْحَمِيدَةِ، وَهِيَ نَيْلُ الدَّرَجَاتِ الْعُلَى، وَالسَّعَادَةُ الْعُظْمَى فِي دَارِ الْكَرَامَةِ، وَطَبْعُهُ لَا يُطَاوِعُهُ عَلَى تَحْصِيلِهِ، بَلْ يَمْنَعُهُ عَنْهُ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَضَرَّةِ الْحَاضِرَةِ وَهِيَ الْمَشَقَّةُ، وَلَا ضَرُورَةَ فِي التَّرْكِ فَيَحْتَاجُ إلَى اكْتِسَابِ سَبَبٍ يُخْرِجُهُ عَنْ رُخْصَةِ التَّرْكِ، وَيُلْحِقُهُ بِالْفَرَائِضِ الْمُوَظَّفَةِ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالنَّذْرِ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ يَحْمِلُهُ عَلَى التَّحْصِيلِ؛ خَوْفًا مِنْ مَضَرَّةِ التَّرْكِ فَيُحَصِّلُ مَقْصُودَهُ، فَثَبَتَ أَنَّ حُكْمَ النَّذْر الَّذِي فِيهِ تَسْمِيَةٌ هُوَ وُجُوبُ الْوَفَاءِ بِمَا سَمَّى، وَسَوَاءٌ كَانَ النَّذْرُ مُطْلَقًا أَوْ مُقَيَّدًا مُعَلَّقًا بِشَرْطٍ بِأَنْ قَالَ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ لِلَّهِ حَجٌّ أَوْ عُمْرَةٌ أَوْ صَوْمٌ أَوْ صَلَاةٌ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ الطَّاعَاتِ، حَتَّى لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ يَلْزَمُهُ الَّذِي جَعَلَهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَلَمْ يُجْزِ عَنْهُ كَفَّارَةٌ، وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: إنْ عَلَّقَهُ بِشَرْطٍ يُرِيدُ كَوْنَهُ لَا يَخْرُجُ عَنْهُ بِالْكَفَّارَةِ، كَمَا إذَا قَالَ: إنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي، أَوْ إنْ قَدِمَ غَائِبِي- فَعَلَيَّ كَذَا، وَإِنْ عَلَّقَهُ بِشَرْطٍ لَا يُرِيدُ كَوْنَهُ بِأَنْ قَالَ: إنْ كَلَّمْتُ فُلَانًا، أَوْ قَالَ: إنْ دَخَلْتُ الدَّارَ فَلِلَّهِ عَلَيَّ كَذَا- يَخْرُجُ عَنْهُ بِالْكَفَّارَةِ، وَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ وَفَّى بِالنَّذْرِ، وَإِنْ شَاءَ كَفَّرَ وَأَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ يُسَمُّونَ هَذَا يَمِينَ الْغَصْبِ.
وَرَوَى عَامِرٌ عَنْ عَلِيِّ بْنِ مَعْبَد عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمُ اللَّهُ: أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ وَقَالَ يُجْزِئُ فِيهِ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَنَّهُ يُجْزِيهِ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ.
وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ- عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ- رَجَعَ إلَى الْكَفَّارَةِ فِي آخِرِ عُمُرِهِ، فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ خَالِدٍ أَنَّهُ قَالَ: قَرَأْت عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ كِتَابَ الْأَيْمَانِ، فَلَمَّا انْتَهَيْت إلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَالَ: قِفْ فَإِنَّ مِنْ رَأْيِي أَنْ أَرْجِعَ إلَى الْكَفَّارَةِ، قَالَ: فَخَرَجْت حَاجًّا فَلَمَّا رَجَعْتُ وَجَدْتُ أَبَا حَنِيفَةَ- عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ- قَدْ مَاتَ، فَأَخْبَرَنِي الْوَلِيدُ بْنُ أَبَانَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَجَعَ عَنْ الْكَفَّارَةِ؛ وَالْمَسْأَلَةُ مُخْتَلِفَةٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّ عَلَيْهِ الْوَفَاءَ بِمَا سَمَّى، وَعَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ ابْنِ سَيِّدِنَا عُمَرَ وَسَيِّدَتِنَا عَائِشَةَ وَسَيِّدَتِنَا حَفْصَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةَ.
وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ بِوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ بِقَوْلِهِ- جَلَّتْ عَظَمَتُهُ-: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الْأَيْمَانَ} وَقَوْلِهِ- جَلَّ شَأْنُهُ-: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ} وَهَذَا يَمِينٌ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ بِغَيْرِ اللَّهِ- تَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ- شَرْطٌ وَجَزَاءٌ، وَهَذَا كَذَلِكَ.
وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «النَّذْرُ يَمِينٌ وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ»، وَهَذَا نَصٌّ، وَلِأَنَّ هَذَا فِي مَعْنَى الْيَمِينِ بِاَللَّهِ- تَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ-؛ لِأَنَّ الْمَقْصِدَ مِنْ الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى الِامْتِنَاعُ مِنْ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ، أَوْ تَحْصِيلُهُ خَوْفًا مِنْ لُزُومِ الْحِنْثِ، وَهَذَا مَوْجُودٌ هَاهُنَا؛ لِأَنَّهُ إنْ قَالَ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ حَجَّةٌ، فَقَدْ قَصَدَ الِامْتِنَاعَ مِنْ تَحْصِيلِ الشَّرْطِ، وَإِنْ قَالَ: إنْ لَمْ أَفْعَلْ كَذَا فَعَلَيَّ حَجَّةٌ، فَقَدْ قَصَدَ تَحْصِيلَ الشَّرْطِ، وَكُلُّ ذَلِكَ خَوْفًا مِنْ الْحِنْثِ فَكَانَ فِي مَعْنَى الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى فَتَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ عِنْدَ الْحِنْثِ.
(وَلَنَا) قَوْلُهُ- جَلَّ شَأْنُهُ-: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ} الْآيَةَ، وَغَيْرُهَا مِنْ نُصُوصِ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ وَالسُّنَّةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِوُجُوبِ الْوَفَاءِ بِالنَّذْرِ عَامًّا مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْمُطْلَقِ وَالْمُعَلَّقِ بِالشَّرْطِ، وَالْوَفَاءُ بِالنَّذْرِ هُوَ فِعْلُ مَا تَنَاوَلَهُ النَّذْرُ لَا الْكَفَّارَةُ؛ وَلِأَنَّ الْأَصْلَ اعْتِبَارُ التَّصَرُّفِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَوْقَعَهُ الْمُتَصَرِّفُ تَنْجِيزًا كَانَ أَوْ تَعْلِيقًا بِشَرْطٍ؛ وَالْمُتَصَرِّف أَوْقَعَهُ نَذْرًا عَلَيْهِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ وَهُوَ إيجَابُ الطَّاعَةِ الْمَذْكُورَةِ لَا إيجَابُ الْكَفَّارَةِ، وَاحْتَجَّ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي ذَلِكَ وَقَالَ: الْقَوْلُ بِوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ يُؤَدِّي إلَى وُجُوبِ الْقَلِيلِ بِإِيجَابِ الْكَثِيرِ، وَوُجُوبِ الْكَثِيرِ بِإِيجَابِ الْقَلِيلِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ: إنْ فَعَلْتُ كَذَا فَعَلَيَّ صَوْمُ سَنَةٍ، أَوْ إطْعَامُ أَلْفِ مِسْكِينٍ- لَزِمَهُ صَوْمُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، أَوْ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ، وَلَوْ قَالَ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ صَوْمُ يَوْمٍ، أَوْ إطْعَامُ مِسْكَيْنِ- لَزِمَهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ، أَوْ صَوْمُ ثَلَاثَةٍ، وَلَا حُجَّةَ لَهُمْ بِالْآيَةِ الْكَرِيمَةِ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْيَمِينُ بِاَللَّهِ- عَزَّ شَأْنُهُ-؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَثْبَتَ بِالْيَمِينِ الْمَعْقُودَةِ مَا نَفَاهُ بِيَمِينِ اللَّغْوِ بِقَوْلِهِ- تَعَالَى جَلَّتْ كِبْرِيَاؤُهُ-: {لَا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الْأَيْمَانَ} وَالْمُرَادُ مِنْ النَّفْيِ الْيَمِينُ بِاَللَّهِ تَعَالَى كَذَا فِي الْإِثْبَاتِ، وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى النَّذْرِ الْمُبْهَمِ تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلَائِلِ، صِيَانَةً لَهَا عَنْ التَّنَاقُضِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّ هَذَا فِي مَعْنَى الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى مَمْنُوعٌ بِأَنَّ النَّذْرَ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ صَرِيحٌ فِي الْإِيجَابِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ، وَالْيَمِينُ بِاَللَّهِ تَعَالَى لَيْسَ بِصَحِيحٍ فِي الْإِيجَابِ، وَكَذَا الْكَفَّارَةُ فِي الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى تَجِبُ جَبْرًا لِهَتْكِ حُرْمَةِ اسْمِ اللَّهِ- عَزّ اسْمُهُ- الْحَاصِلِ بِالْحِنْثِ، وَلَيْسَ فِي الْحِنْثِ هاهنا هَتْكُ حُرْمَةِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا فِيهِ إيجَابُ الطَّاعَةِ، فَلَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَى الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ الْوَفَاءُ بِالْمَنْذُورِ بِهِ نَفْسِهِ حَقِيقَةً، إنَّمَا يَجِبُ عِنْدَ الْإِمْكَانِ، فَأَمَّا عِنْدَ التَّعَذُّرِ فَإِنَّمَا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ تَقْدِيرًا بِخَلَفِهِ؛ لِأَنَّ الْخَلَفَ يَقُومُ مَقَامَ الْأَصْلِ، كَأَنَّهُ هُوَ، كَالتُّرَابِ حَالَ عَدَمِ الْمَاءِ، وَالْأَشْهُرُ حَالَ عَدَمِ الْإِقْرَاءِ، حَتَّى لَوْ نَذَرَ الشَّيْخُ الْفَانِي بِالصَّوْمِ، يَصِحُّ نَذْرُهُ، وَتَلْزَمُهُ الْفِدْيَةُ؛ لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ الْوَفَاءِ بِالصَّوْمِ حَقِيقَةً فَيَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ بِهِ تَقْدِيرًا بِخَلَفِهِ، وَيَصِيرُ كَأَنَّهُ صَامَ، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ أَيْضًا النَّذْرُ بِذَبْحِ الْوَلَدِ، أَنَّهُ يَصِحُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ- عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ- وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَيَجِبُ ذَبْحُ الشَّاةِ؛ لِأَنَّهُ إنْ عَجَزَ عَنْ تَحْقِيقِ الْقُرْبَةِ بِذَبْحِ الْوَلَدِ حَقِيقَةً لَمْ يَعْجِزْ عَنْ تَحْقِيقِهَا بِذَبْحِهِ تَقْدِيرًا بِذَبْحِ خَلَفَهُ وَهُوَ الشَّاةُ، كَمَا فِي الشَّيْخِ الْفَانِي إذَا نَذَرَ بِالصَّوْمِ.
(وَأَمَّا) وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ عِنْدَ فَوَاتِ الْمَنْذُورِ بِهِ إذَا كَانَ مُعَيَّنًا، بِأَنْ نَذَرَ صَوْمَ شَهْرٍ بِعَيْنِهِ، ثُمَّ أَفْطَرَ فَهَلْ هُوَ مِنْ حُكْمِ النَّذْرِ؟ فَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ: أَنَّ النَّاذِرَ لَا يَخْلُو إمَّا إنْ قَالَ ذَلِكَ وَنَوَى النَّذْرَ وَلَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِ الْيَمِينُ أَوْ نَوَى النَّذْرَ وَنَوَى أَنْ لَا يَكُونَ يَمِينًا، أَوْ لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِ شَيْءٌ لَا النَّذْرُ وَلَا الْيَمِينُ، أَوْ نَوَى الْيَمِينَ وَلَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِ النَّذْرُ، أَوْ نَوَى الْيَمِينَ وَنَوَى أَنْ لَا يَكُونَ نَذْرًا، أَوْ نَوَى النَّذْرَ وَالْيَمِينَ جَمِيعًا فَإِنْ لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِ شَيْءٌ لَا النَّذْرُ وَلَا الْيَمِينُ، أَوْ نَوَى النَّذْرَ وَلَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِ الْيَمِينُ، أَوْ نَوَى النَّذْرَ وَنَوَى أَنْ لَا يَكُونَ يَمِينًا- يَكُونُ نَذْرًا بِالْإِجْمَاعِ.
وَإِنْ نَوَى الْيَمِينَ وَنَوَى أَنْ لَا يَكُونَ نَذْرًا يَكُونُ يَمِينًا وَلَا يَكُونُ نَذْرًا بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنْ نَوَى الْيَمِينَ وَلَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِ النَّذْرُ، أَوْ نَوَى النَّذْرَ وَالْيَمِينَ جَمِيعًا- كَانَ نَذْرًا وَيَمِينًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَكُونُ يَمِينًا وَلَا يَكُونُ نَذْرًا، وَالْأَصْلُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ: لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ الْوَاحِدُ نَذْرًا وَيَمِينًا، بَلْ إذَا بَقِيَ نَذْرًا لَا يَكُونُ يَمِينًا، وَإِذَا صَارَ يَمِينًا لَمْ يَبْقَ نَذْرًا وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ الْوَاحِدُ نَذْرًا وَيَمِينًا.
(وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الصِّيغَةَ لِلنَّذْرِ حَقِيقَةً وَتَحْتَمِلُ الْيَمِينَ مَجَازًا لِمُنَاسَبَةٍ بَيْنَهُمَا بِكَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَبَبًا لِوُجُوبِ الْكَفِّ عَنْ فِعْلٍ، أَوْ الْإِقْدَامِ عَلَيْهِ، فَإِذَا بَقِيَتْ الْحَقِيقَةُ مُعْتَبَرَةً لَمْ يَثْبُتْ الْمَجَازُ، وَإِذَا انْقَلَبَ مَجَازًا لَمْ تَبْقَ الْحَقِيقَةُ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ الْوَاحِدَ لَا يَشْتَمِلُ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ التَّنَافِي، إذْ الْحَقِيقَةُ مِنْ الْأَسَامِي مَا تَقَرَّرَ فِي الْمَحَلِّ الَّذِي وُضِعَ لَهُ، وَالْمَجَازُ مَا جَاوَزَ مَحَلَّ وَضْعِهِ وَانْتَقَلَ عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ لِضَرْبِ مُنَاسَبَةٍ بَيْنَهُمَا، وَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ الْوَاحِدُ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ مُتَقَرِّرًا فِي مَحَلِّهِ، وَمُنْتَقِلًا عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ.
(وَلَهُمَا) أَنَّ النَّذْرَ فِيهِ مَعْنَى الْيَمِينِ؛ لِأَنَّ النَّذْرَ وُضِعَ لِإِيجَابِ الْفِعْلِ مَقْصُودًا تَعْظِيمًا لِلَّهِ تَعَالَى، وَفِي الْيَمِينِ وُجُوبُ الْفِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ، إلَّا أَنَّ الْيَمِينَ مَا وُضِعَتْ لِذَلِكَ، بَلْ لِتَحْقِيقِ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَوُجُوبُ الْفِعْلِ لِضَرُورَةِ تَحَقُّقِ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ لَا أَنَّهُ يَثْبُتُ مَقْصُودًا بِالْيَمِينِ، لِأَنَّهَا مَا وُضِعَتْ لِذَلِكَ، وَإِذَا كَانَ وُجُوبُ الْفِعْلِ فِيهَا لِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ الْفِعْلُ وَاجِبًا فِي نَفْسِهِ، وَلِهَذَا تَنْعَقِدُ الْيَمِينُ فِي الْأَفْعَالِ كُلِّهَا، وَاجِبَةً كَانَتْ أَوْ مَحْظُورَةً أَوْ مُبَاحَةً.
وَلَا يَنْعَقِدُ النَّذْرُ إلَّا فِيمَا لِلَّهِ تَعَالَى مِنْ جِنْسِهِ إيجَابٌ، وَلِهَذَا لَمْ يَصِحَّ اقْتِدَاءُ النَّاذِرِ بِالنَّاذِرِ لِتَغَايُرِ الْوَاجِبَيْنِ؛ لِأَنَّ صَلَاةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَجَبَتْ بِنَذْرِهِ، فَتَتَغَايَرُ الْوَاجِبَاتُ، وَلَمْ يَصِحَّ الِاقْتِدَاءُ، وَيَصِحُّ اقْتِدَاءُ الْحَالِفِ بِالْحَالِفِ؛ لِأَنَّ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَكُنْ وَاجَبًا فِي نَفْسِهِ كَانَ فِي نَفْسِهِ نَفْلًا كَأَنْ اقْتَدَى الْمُتَنَفِّلُ بِالْمُتَنَفِّلِ فَصَحَّ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْمَنْذُورَ وَاجِبٌ فِي نَفْسِهِ، وَالْمَحْلُوفَ وَاجِبٌ لِغَيْرِهِ، فَلَا شَكَّ أَنَّ مَا كَانَ وَاجِبًا فِي حَقِّ نَفْسِهِ كَانَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ وَاجِبًا، فَكَانَ مَعْنَى الْيَمِينِ- وَهُوَ الْوُجُوبُ لِغَيْرِهِ- مَوْجُودًا فِي النَّذْرِ، فَكَانَ كُلُّ نَذْرٍ فِيهِ مَعْنَى الْيَمِينِ، إلَّا أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ لِوُقُوعِ النِّسْبَةِ بِوُجُوبِهِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ عَنْ وُجُوبِهِ فِي حَقِّ غَيْرِهِ، فَإِذَا نَوَاهُ فَقَدْ اعْتَبَرَهُ فَصَارَ نَذْرًا وَيَمِينًا.
وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ لَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ فِي لَفْظٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّ الْمَجَازَ مَا جَاوَزَ مَحَلَّ الْحَقِيقَةِ إلَى غَيْرِهِ لِنَوْعِ مُنَاسَبَةٍ بَيْنَهُمَا، وَهَذَا لَيْسَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ بَلْ هُوَ مِنْ جَعْلِ مَا لَيْسَ بِمُعْتَبَرٍ فِي مَحَلِّ الْحَقِيقَةِ مَعَ وُجُودِهِ وَتَقَرُّرِهِ مُعْتَبَرًا بِالنِّسْبَةِ، فَلَمْ يَكُنْ مِنْ بَابِ الْمَجَازِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ اشْتِمَالُ لَفْظٍ وَاحِدٍ عَلَى مَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفِينَ كَالْكِتَابَةِ، وَالْإِعْتَاقِ عَلَى مَالٍ- أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَشْتَمِلُ عَلَى مَعْنَى الْيَمِينِ، وَمَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ عَلَى مَا ذَكَرنَا فِي كِتَابِ الْعَتَاقِ وَالْمَكَاتِبِ.
(وَأَمَّا) النَّذْرُ الَّذِي لَا تَسْمِيَةَ فِيهِ فَحُكْمُهُ وُجُوبُ مَا نَوَى إنْ كَانَ النَّاذِرُ نَوَى شَيْئًا سَوَاءٌ كَانَ مُطْلَقًا عَنْ شَرْطٍ، أَوْ مُعَلَّقًا بِشَرْطٍ، بِأَنْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ نَذْرٌ أَوْ قَالَ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَلِلَّهِ عَلَيَّ نَذْرٌ، فَإِنْ نَوَى صَوْمًا أَوْ صَلَاةً أَوْ حَجًّا أَوْ عُمْرَةً، لَزِمَهُ الْوَفَاءُ بِهِ فِي الْمُطْلَقِ لِلْحَالِ، وَفِي الْمُعَلَّقِ بِالشَّرْطِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ، وَلَا تُجْزِيهِ الْكَفَّارَةُ فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ، غَيْرَ أَنَّهُ إنْ كَانَ مُطْلَقًا يَحْنَثُ لِلْحَالِ، وَإِنْ كَانَ مُعَلَّقًا بِشَرْطِ يَحْنَثُ عِنْدَ الشَّرْطِ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «النَّذْرُ يَمِينٌ وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ»، وَالْمُرَادُ مِنْهُ النَّذْرُ الْمُبْهَمُ الَّذِي لَا نِيَّةَ لِلنَّاذِرِ فِيهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الشَّرْطُ الَّذِي عَلَّقَ بِهِ هَذَا النَّذْرَ مُبَاحًا أَوْ مَعْصِيَةً، بِأَنْ قَالَ: إنْ صُمْتُ أَوْ صَلَّيْتُ فَلِلَّهِ عَلَيَّ نَذْرٌ- وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُحَنِّثَ نَفْسَهُ، وَيُكَفِّرَ عَنْ يَمِينِهِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ، وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ».
وَلَوْ نَوَى فِي النَّذْرِ الْمُبْهَمِ صِيَامًا وَلَمْ يَنْوِ عَدَدًا؛ فَعَلَيْهِ صِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْمُطْلَقِ لِلْحَالِ، وَفِي الْمُعَلَّقِ إذَا وُجِدَ الشَّرْطُ، وَإِنْ نَوَى طَعَامًا وَلَمْ يَنْوِ عَدَدًا؛ فَعَلَيْهِ طَعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ لَكَانَ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ؛ لِمَا ذَكَرنَا أَنَّ النَّذْرَ الْمُبْهَمَ يَمِينٌ، وَأَنَّ كَفَّارَتَهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ بِالنَّصِّ، فَلَمَّا نَوَى بِهِ الصِّيَامَ انْصَرَفَ إلَى صِيَامِ الْكَفَّارَةِ، وَهُوَ صِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَانْصَرَفَ الْإِطْعَامُ إلَى طَعَامِ الْكَفَّارَةِ، وَهُوَ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ وَلَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ صَدَقَةٌ، فَعَلَيْهِ نِصْفُ صَاعٍ، وَلَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمٌ فَعَلَيْهِ صَوْمُ يَوْمٍ؛ وَلَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ صَلَاةٌ، فَعَلَيْهِ رَكْعَتَانِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَدْنَى مَا وَرَدَ الْأَمْرُ بِهِ، وَالنَّذْرُ يُعْتَبَرُ بِالْأَمْرِ فَإِذَا لَمْ يَنْوِ شَيْئًا يَنْصَرِفُ إلَى أَدْنَى مَا وَرَدَ بِهِ الْأَمْرُ فِي الشَّرْعِ.
(وَأَمَّا) وَقْتُ ثُبُوتِ هَذَا الْحُكْمِ فَالنَّذْرُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ مُطْلَقًا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُعَلَّقًا بِشَرْطٍ أَوْ مُقَيَّدًا بِمَكَانٍ أَوْ مُضَافًا إلَى وَقْتٍ، وَالْمَنْذُورُ لَا يَخْلُو أَمَّا إنْ كَانَ قُرْبَةً بَدَنِيَّةً كَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ.
وَأَمَّا إنْ كَانَ مَالِيَّةً كَالصَّدَقَةِ فَإِنْ كَانَ النَّذْرُ مُطْلَقًا عَنْ الشَّرْطِ وَالْمَكَانِ وَالزَّمَانِ، فَوَقْتُ ثُبُوتِ حُكْمِهِ وَهُوَ وُجُوبُ الْمَنْذُورِ بِهِ هُوَ وَقْتُ وُجُودِ النَّذْرِ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ فِي الْحَالِ مُطْلَقًا عَنْ الشَّرْطِ وَالْمَكَانِ وَالزَّمَانِ، لِأَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ وُجِدَ مُطْلَقًا، فَيَثْبُتُ الْوُجُوبُ مُطْلَقًا، وَإِنْ كَانَ مُعَلَّقًا بِشَرْطٍ نَحْوَ أَنْ يَقُولَ: إنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي، أَوْ إنْ قَدِمَ فُلَانٌ الْغَائِبُ فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ شَهْرًا، أَوْ أُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ، أَوْ أَتَصَدَّقَ بِدِرْهَمٍ، وَنَحْوَ ذَلِكَ فَوَقْتُهُ وَقْتُ الشَّرْطِ، فَمَا لَمْ يُوجَدْ الشَّرْطُ لَا يَجِبُ بِالْإِجْمَاعِ.
وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ يَكُونُ نَفْلًا؛ لِأَنَّ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ عُدِمَ قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ، وَهَذَا لِأَنَّ تَعْلِيقَ النَّذْرِ بِالشَّرْطِ هُوَ إثْبَاتُ النَّذْرِ بَعْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ كَتَعْلِيقِ الْحُرِّيَّةِ بِالشَّرْطِ إثْبَاتُ الْحُرِّيَّةِ بَعْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ، فَلَا يَجِبُ قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ، لِانْعِدَامِ السَّبَبِ قَبْلَهُ وَهُوَ النَّذْرُ فَلَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهُ عَلَى الشَّرْطُ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ أَدَاءً قَبْلَ الْوُجُوبِ وَقَبْلَ وُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ، فَلَا يَجُوزُ كَمَا لَا يَجُوزُ التَّكْفِيرُ قَبْلَ الْحِنْثِ؛ لِأَنَّهُ شَرَطَ أَنْ يُؤَدِّيَهُ بَعْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ، فَيَلْزَمُهُ مُرَاعَاةُ شَرْطِهِ لِقَوْلِهِ: عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ» وَإِنْ كَانَ مُقَيَّدًا بِمَكَانٍ بِأَنْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ فِي مَوْضِعِ كَذَا، أَوْ أَتَصَدَّقَ عَلَى فُقَرَاءِ بَلَدِ كَذَا- يَجُوزُ أَدَاؤُهُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْمَكَانِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ، وَعِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَجُوزُ إلَّا فِي الْمَكَانِ الْمَشْرُوطِ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّهُ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ الْأَدَاءَ فِي مَكَان مَخْصُوصٍ، فَإِذَا أَدَّى فِي غَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ مُؤَدِّيًا مَا عَلَيْهِ، فَلَا يَخْرُجُ عَنْ عُهْدَةِ الْوَاجِبِ؛ وَلِأَنَّ إيجَابَ الْعَبْدِ يُعْتَبَرُ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى مُقَيَّدًا بِمَكَانٍ لَا يَجُوزُ أَدَاؤُهُ فِي غَيْرِهِ كَالنَّحْرِ فِي الْحَرَمِ وَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، وَالطَّوَافِ بِالْبَيْتِ، وَالسَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ كَذَا مَا أَوْجَبَهُ الْعَبْدُ.
(وَلَنَا) أَنَّ الْمَقْصُودَ وَالْمُبْتَغَى مِنْ النَّذْرِ هُوَ التَّقَرُّبُ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ نَذْرِهِ إلَّا مَا هُوَ قُرْبَةٌ، وَلَيْسَ فِي عَيْنِ الْمَكَانِ وَإِنَّمَا هُوَ مَحَلُّ أَدَاءِ الْقُرْبَةِ فِيهِ، فَلَمْ يَكُنْ بِنَفْسِهِ قُرْبَةً فَلَا يَدْخُلُ الْمَكَانُ تَحْتَ نَذْرِهِ، فَلَا يَتَقَيَّدُ بِهِ فَكَانَ ذِكْرُهُ وَالسُّكُوتُ عَنْهُ بِمَنْزِلَةٍ وَإِنْ كَانَ مُضَافًا إلَى وَقْتٍ بِأَنْ قَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ رَجَبًا، أَوْ أُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ يَوْمَ كَذَا، أَوْ أَتَصَدَّقَ بِدِرْهَمٍ فِي يَوْمِ كَذَا- فَوَقْتُ الْوُجُوبِ فِي الصَّدَقَةِ هُوَ وَقْتُ وُجُودِ النَّذْرِ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا، حَتَّى يَجُوزَ تَقْدِيمُهَا عَلَى الْوَقْتِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا، وَاخْتُلِفَ فِي الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ، قَالَ أَبُو يُوسُفَ: وَقْتُ الْوُجُوبِ فِيهِمَا وَقْتُ وُجُودِ النَّذْرِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ- عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ- وَقْتُ مَجِيءِ الْوَقْتِ حَتَّى يَجُوزَ تَقْدِيمُهُ عَلَى الْوَقْتِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَلَا يَجُوزُ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ.
(وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ النَّذْرَ إيجَابُ مَا شُرِعَ فِي الْوَقْتِ نَفْلًا، أَلَا تَرَى أَنَّ النَّذْرَ بِمَا لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ نَفْلًا وَفِي وَقْتٍ لَا يُتَصَوَّرُ، كَصَوْمِ اللَّيْلِ وَغَيْرِهِ لَا يَصِحُّ؟ وَالنَّاذِرُ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ الصَّوْمَ فِي وَقْتٍ مَخْصُوصٍ، فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ قَبْلَ مَجِيئِهِ، بِخِلَافِ الصَّدَقَةِ؛ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ مَالِيَّةٌ لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِالْوَقْتِ؛ بَلْ بِالْمَالِ فَكَانَ ذِكْرُ الْوَقْتِ فِيهِ لَغْوًا، بِخِلَافِ الْعِبَادَةِ الْبَدَنِيَّةِ.
(وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْوُجُوبَ ثَابِتٌ قَبْلَ الْوَقْتِ الْمُضَافِ إلَيْهِ النَّذْرُ، فَكَانَ الْأَدَاءُ قَبْلَ الْوَقْتِ الْمَذْكُورِ أَدَاءً بَعْدَ الْوُجُوبِ فَيَجُوزُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى تَحَقُّقِ الْوُجُوبِ قَبْلَ الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ وَجْهَانِ:- أَحَدُهُمَا أَنَّ الْعِبَادَاتِ وَاجِبَةٌ عَلَى الدَّوَامِ بِشَرْطِ الْإِمْكَانِ وَانْتِفَاءِ الْحَرَجِ بِالنُّصُوصِ وَالْمَعْقُولِ.
(أَمَّا) النُّصُوصُ فَقَوْلُهُ- عَزَّ شَأْنُهُ-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} وقَوْله تَعَالَى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} وَنَحْوُ ذَلِكَ.
(وَأَمَّا) الْمَعْقُولُ فَهُوَ أَنَّ الْعِبَادَةَ لَيْسَتْ إلَّا خِدْمَةَ الْمَوْلَى؛ وَخِدْمَةُ الْمَوْلَى عَلَى الْعَبْدِ مُسْتَحَقَّةٌ، وَالتَّبَرُّعُ مِنْ الْعَبْدِ عَلَى الْمَوْلَى مُحَالٌ، وَالْعُبُودِيَّةُ دَائِمَةٌ فَكَانَ وُجُوبُ الْعِبَادَةِ عَلَيْهِ دَائِمًا؛ وَلِأَنَّ الْعِبَادَاتِ وَجَبَتْ شُكْرًا لِلنِّعْمَةِ، وَالنِّعْمَةُ دَائِمَةٌ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ شُكْرُهَا دَائِمًا حَسْبَ دَوَامِ النِّعْمَةِ، إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ رَخَّصَ لِلْعَبْدِ تَرْكَهَا فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، فَإِذَا نَذَرَ فَقَدْ اخْتَارَ الْعَزِيمَةَ، وَتَرَكَ الرُّخْصَةَ، فَيَعُودُ حُكْمُ الْعَزِيمَةِ كَالْمُسَافِرِ إذَا اخْتَارَ صَوْمَ رَمَضَانَ فَصَامَ، سَقَطَ عَنْهُ الْفَرْضُ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ هُوَ الصَّوْمُ، إلَّا أَنَّهُ رُخِّصَ لَهُ تَرْكُهُ لِعُذْرِ السَّفَرِ، فَإِذَا صَامَ فَقَدْ اخْتَارَ الْعَزِيمَةَ وَتَرَك الرُّخْصَةَ فَعَادَ حُكْمُ الْعَزِيمَةِ، لِهَذَا الْمَعْنَى كَانَ الشُّرُوعُ فِي نَفْلِ الْعِبَادَةِ اللُّزُومَ فِي الْحَقِيقَةِ بِمَا ذَكَرنَا مِنْ الدَّلَائِلِ بِالشُّرُوعِ، إلَّا أَنَّهُ لَمَّا شَرَعَ فَقَدْ اخْتَارَ الْعَزِيمَةَ وَتَرَك الرُّخْصَ، فَعَادَ حُكْمُ الْعَزِيمَةِ كَذَا فِي النَّذْر.
وَالثَّانِي أَنَّهُ وُجِدَ سَبَب الْوُجُوب لِلْحَالِ وَهُوَ النَّذْر، وَإِنَّمَا الْأَجَل تَرْفِيهٌ يُتَرَفَّهُ بِهِ فِي التَّأْخِيرِ، فَإِذَا عَجَّلَ فَقَدْ أَحْسَنَ فِي إسْقَاطِ الْأَجَلِ فَيَجُوزُ كَمَا فِي الْإِقَامَةِ فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ لِصَوْمِ رَمَضَانَ، وَهَذَا لِأَنَّ الصِّيغَةَ صِيغَةُ إيجَابٍ، أَعْنِي قَوْلَهُ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنَّ أَصُومَ وَالْأَصْلُ فِي كُلّ لَفْظٍ مَوْجُودٍ فِي زَمَانِ اعْتِبَارِهِ فِيهِ فِيمَا يَقْتَضِيه فِي وَضْعِ اللُّغَةِ، وَلَا يَجُوزُ إبْطَالُهُ وَلَا تَغْيِيرُهُ إلَى غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ إلَّا بِدَلِيلِ قَاطِعٍ أَوْ ضَرُورَةٍ دَاعِيَةٍ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ إلَى إبْطَالِ هَذِهِ الصِّيغَةِ، وَلَا إلَى تَغْيِيرِهَا، وَلَا دَلِيلَ سِوَى ذِكْرِ الْوَقْتِ، وَأَنَّهُ مُحْتَمَلٌ قَدْ يُذْكَرُ لِلْوُجُوبِ فِيهِ، كَمَا فِي بَابِ الصَّلَاةِ، وَقَدْ يُذْكَرُ لِصِحَّةِ الْأَدَاءِ كَمَا فِي الْحَجِّ وَالْأُضْحِيَّةِ، وَقَدْ يُذْكَرُ لِلتَّرْفِيهِ وَالتَّوْسِعَةِ كَمَا فِي وَقْتِ الْإِقَامَةِ لِلْمُسَافِرِ، وَالْحَوْلِ فِي بَابِ الزَّكَاةِ، فَكَانَ ذِكْرُ الْوَقْتِ فِي نَفْسِهِ مُحْتَمِلًا، فَلَا يَجُوزُ إبْطَالُ صِيغَةِ الْإِيجَابِ الْمَوْجُودِ لِلْحَالِ مَعَ الِاحْتِمَالِ، فَبَقِيَتْ الصِّيغَةُ مُوجِبَةً وَذِكْرُ الْوَقْتِ لِلتَّرْفِيهِ وَالتَّوْسِعَةِ؛ كَيْ لَا يُؤَدِّيَ إلَى إبْطَالِ الثَّابِتِ بِيَقِينٍ إلَى أَمْرٍ مُحْتَمَلٍ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِإِيجَابِ صَوْمِ رَجَبٍ عَيْنًا؛ بَلْ هُوَ إيجَابُ صَوْمٍ مُقَدَّرٍ بِالشَّهْرِ، أَيَّ شَهْرٍ كَانَ، فَكَانَ ذِكْرُ رَجَبٍ لِتَقْرِيرِ الْوَاجِبِ لَا لِلتَّعْيِينِ، فَأَيُّ شَهْرٍ اتَّصَلَ الْأَدَاءُ بِهِ تَعَيَّنَ ذَلِكَ الشَّهْرُ لِلْوُجُوبِ فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يَتَّصِلْ بِهِ الْأَدَاءُ إلَى رَجَبٍ تَعَيَّنَ رَجَبٌ، لِوُجُوبِ الْأَدَاءِ فِيهِ، فَكَانَ تَعْيِينُ كُلِّ شَهْرٍ قَبْلَ رَجَبٍ بِاتِّصَالِ الْأَدَاءِ بِهِ، وَتَعْيِينُ رَجَبٍ بِمَجِيئِهِ قَبْلَ اتِّصَالِ الْأَدَاءِ بِشَهْرٍ قَبْلَهُ كَمَا فِي بَابِ الصَّلَاةِ أَنَّهَا تَجِبُ فِي جُزْءٍ مِنْ الْوَقْتِ غَيْرِ مُعَيَّنٍ.
وَإِنَّمَا يَتَعَيَّنُ الْوُجُوبُ بِالشُّرُوعِ إنْ شَرَعَ فِيهَا، وَإِنْ لَمْ يَشْرَعْ إلَى آخِرِ الْوَقْتِ تَعَيَّنَ آخِرُ الْوَقْتِ لِلْوُجُوبِ وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ الْأَقَاوِيلِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَكَمَا فِي النَّذْرِ الْمُطْلَقِ عَنْ الْوَقْتِ، وَسَائِرِ الْوَاجِبَاتِ الْمُطْلَقَةِ عَنْ الْوَقْتِ مِنْ قَضَاءِ رَمَضَانَ وَالْكَفَّارَةِ وَغَيْرِهِمَا، أَنَّهَا تَجِبُ فِي مُطْلَقِ الْوَقْتِ فِي غَيْرِ تَعْيِينٍ، وَإِنَّمَا يَتَعَيَّنُ الْوُجُوبُ إمَّا بِاتِّصَالِ الْأَدَاءِ بِهِ، وَإِمَّا بِآخِرِ الْعُمُرِ إذَا صَارَ إلَى حَالٍ لَوْ لَمْ يُؤَدَّ لَفَاتَ بِالْمَوْتِ.
(وَأَمَّا) كَيْفِيَّةُ ثُبُوتِهِ فَالنَّذْرُ لَا يَخْلُو إمَّا إنْ أُضِيفُ إلَى وَقْتٍ مُبْهَمٍ، وَإِمَّا إنْ أُضِيفَ إلَى وَقْتٍ مُعَيَّنٍ، فَإِنْ أُضِيفَ إلَى وَقْتٍ مُبْهَمٍ بِأَنْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ شَهْرًا وَلَا نِيَّةَ لَهُ، فَحُكْمُهُ هُوَ حُكْمُ الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ عَنْ الْوَقْتِ، وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْأُصُولِ فِي ذَلِكَ أَنَّ حُكْمَهُ وُجُوبُ الْفِعْلِ عَلَى الْفَوْرِ أَمْ عَلَى التَّرَاخِي، حَكَى الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ، وَرَوَى ابْنُ شُجَاعٍ الْبَلْخِيّ عَنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ يَجِبُ وُجُوبًا مُوَسَّعًا، فَظَهَرَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ أَصْحَابِنَا فِي الْحَجِّ، فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَجِبُ عَلَى الْفَوْرِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ عَلَى التَّرَاخِي.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ- عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ- مِثْلُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَقَالَ عَامَّةُ مَشَايِخِنَا بِمَا وَرَاءَ النَّهْرِ أَنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي، وَتَفْسِيرُ الْوَاجِبِ عَلَى التَّرَاخِي عِنْدَهُمْ أَنَّهُ يَجِبُ فِي جُزْءٍ مِنْ عُمُرِهِ غَيْرِ مُعَيَّنٍ وَإِلَيْهِ خِيَارُ التَّعْيِينِ، فَفِي أَيِّ وَقْتٍ شَرَعَ فِيهِ تَعَيَّنَ ذَلِكَ الْوَقْتُ لِلْوُجُوبِ، وَإِنْ لَمْ يَشْرَعْ يَتَضَيَّقْ الْوُجُوبُ فِي آخِرِ عُمُرِهِ إذَا بَقِيَ مِنْ آخِرِ عُمُرِهِ قَدْرُ مَا يُمْكِنُهُ الْأَدَاءُ فِيهِ بِغَالِبِ ظَنِّهِ، حَتَّى لَوْ مَاتَ قَبْلَ الْأَدَاءِ يَأْثَمُ بِتَرْكِهِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْفِعْلِ مُطْلَقٌ عَنْ الْوَقْتِ، فَلَا يَجُوزُ تَقْيِيدُهُ إلَّا بِدَلِيلٍ، فَكَذَلِكَ النَّذْرُ؛ لِأَنَّ النُّصُوصَ الْمُقْتَضِيَةَ لِوُجُوبِ الْوَفَاءِ بِالنَّذْرِ مُطْلَقَةٌ عَنْ الْوَقْتِ، فَلَا يَجُوزُ تَقْيِيدُهَا إلَّا بِدَلِيلٍ، وَكَذَا سَبَبُ الْوُجُوبِ وَهُوَ النَّذْرُ وُجِدَ مُطْلَقًا عَنْ الْوَقْتِ، وَالْحُكْمُ يَثْبُتُ عَلَى وَفْقِ السَّبَبِ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَصُومَ شَهْرًا مِنْ عُمُرِهِ غَيْرَ مُعَيَّنٍ، وَخِيَارُ التَّعْيِينِ إلَيْهِ إلَى أَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ الْفَوْتُ لَوْ لَمْ يَصُمْ فَيَضِيقُ الْوَقْتُ حِينَئِذٍ.
وَكَذَا حُكْمُ الِاعْتِكَافِ الْمُضَافِ إلَى وَقْتٍ مُبْهَمٍ، بِأَنْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ شَهْرًا، وَلَا نِيَّةَ لَهُ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْيَمِينِ بِالْكَلَامِ، بِأَنْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُ فُلَانًا شَهْرًا؛ أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ الشَّهْرُ الَّذِي يَلِي الْيَمِينَ، وَكَذَا الْإِجَارَةُ بِأَنْ أَجَّرَ دَارِهِ، أَوْ عَبْدَهُ شَهْرًا، فَإِنَّهُ يَتَعَيَّنُ الشَّهْرُ الَّذِي يَلِي الْعَقْدَ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ النَّذْرَ إلَى شَهْرٍ مُنْكَرٍ، وَالصَّرْفُ إلَى الشَّهْرِ الَّذِي يَلِي النَّذْرَ يُعَيِّنُ الْمُنْكَرَ، وَلَا يَجُوزُ تَعْيِينُ الْمُنْكَرِ إلَّا بِدَلِيلٍ هُوَ الْأَصْلُ، وَقَدْ قَامَ دَلِيلُ التَّعْيِينِ فِي بَابِ الْيَمِينِ وَالْإِجَارَةِ؛ لِأَنَّ غَرَضَ الْحَالِفِ مَنْعُ نَفْسِهِ عَنْ الْكَلَامِ، وَالْإِنْسَانُ إنَّمَا يَمْنَعُ نَفْسَهُ عَنْ الْكَلَامِ مَعَ غَيْرِهِ؛ لِإِهَانَتِهِ وَالِاسْتِخْفَافِ بِهِ لِدَاعٍ يَدْعُوهُ إلَى ذَلِكَ الْحَالِ، وَالْإِجَارَةُ تَنْعَقِدُ لِلْحَاجَةِ إلَى الِانْتِفَاعِ بِالْمُسْتَأْجَرِ، وَالْحَاجَةُ قَائِمَةٌ عَقِيبَ الْعَقْدِ، فَيَتَعَيَّنُ الزَّمَانُ الْمُتَعَقِّبُ لِلْعِقْدِ لِثُبُوتِ حُكْمِ الْإِجَارَةِ، وَيَجُوزُ تَعْيِينُ الْمُبْهَمِ عِنْدَ قِيَامِ الدَّلِيلِ الْمُعَيِّنِ.
وَلَوْ نَوَى شَهْرًا مُعَيَّنًا صَحَّتْ نِيَّتُهُ؛ لِأَنَّهُ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ، وَفِيهِ تَشْدِيدٌ عَلَيْهِ، ثُمَّ فِي النَّذْرِ الْمُضَافِ إلَى وَقْتٍ مُبْهَمٍ إذَا عَيَّنَ شَهْرًا لِلصَّوْمِ فَهُوَ بِالْخِيَارِ: إنْ شَاءَ تَابَعَ، وَإِنْ شَاءَ فَرَّقَ، بِخِلَافِ الِاعْتِكَافِ إنَّهُ إذَا عَيَّنَ شَهْرًا لِلِاعْتِكَافِ فلابد وَأَنْ يَعْتَكِفَ مُتَتَابِعًا فِي النَّهَارِ وَاللَّيَالِي جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْإِيجَابَ فِي النَّوْعَيْنِ حَصَلَ مُطْلَقًا عَنْ صِفَةِ التَّتَابُعِ، إلَّا أَنَّ فِي ذَات الِاعْتِكَافِ مَا يُوجِبُ التَّتَابُعَ، وَهُوَ كَوْنُهُ لَبْثًا عَلَى الدَّوَامِ فَكَانَ مَبْنَاهُ عَلَى الِاتِّصَالِ، وَاللَّيَالِي وَالنُّهُرُ قَابِلَةٌ لِذَلِكَ، فلابد مِنْ التَّتَابُعِ وَمَبْنَى الصَّوْمِ لَيْسَ عَلَى التَّتَابُعِ بَلْ عَلَى التَّفْرِيقِ لِمَا بَيْنَ كُلِّ يَوْمَيْنِ مَا لَا يَصْلُحُ لَهُ وَهُوَ اللَّيْلُ، فَبَقِيَ لَهُ الْخِيَارُ.
وَإِنْ أُضِيف إلَى وَقْتٍ مُعَيَّنٍ بِأَنْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ غَدًا يَجِبُ عَلَيْهِ صَوْمُ الْغَدِ وُجُوبًا مُضَيَّقًا، لَيْسَ لَهُ رُخْصَةُ التَّأْخِيرِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ.
وَكَذَا إذَا قَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ رَجَبٍ فَلَمْ يَصُمْ فِيمَا سَبَقَ مِنْ الشُّهُورِ عَلَى رَجَبٍ حَتَّى هَجَمَ رَجَبٌ لَا يَجُوزُ لَهُ التَّأْخِيرُ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَصُمْ قَبْلَهُ حَتَّى جَاءَ رَجَبٌ تَعَيَّنَ رَجَبٌ لِوُجُوبِ الصَّوْمِ فِيهِ عَلَى التَّضْيِيقِ، فَلَا يُبَاحُ لَهُ التَّأْخِيرُ، وَلَوْ صَامَ رَجَبًا وَأَفْطَرَ مِنْهُ يَوْمًا لَا يَلْزَمُهُ الِاسْتِقْبَالُ، وَلَكِنَّهُ يَقْضِي ذَلِكَ الْيَوْم مِنْ شَهْرٍ آخَرَ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ شَهْرًا مُتَتَابِعًا، أَوْ قَالَ: أَصُومَ شَهْرًا وَنَوَى التَّتَابُعَ فَأَفْطَرَ يَوْمًا- أَنَّهُ يَسْتَقْبِلُ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ صَوْمًا مَوْصُوفًا بِصِفَةِ التَّتَابُعِ، وَصَحَّ الْإِيجَابُ؛ لِأَنَّ صِفَةَ التَّتَابُعِ زِيَادَةُ قُرْبَةٍ لِمَا يَلْحَقُهُ بِمُرَاعَاتِهَا مِنْ زِيَادَةِ مَشَقَّةٍ، وَهِيَ صِفَةٌ مُعْتَبَرَةٌ شَرْعًا وَرَدَ الشَّرْعُ بِهَا فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ، وَالظِّهَارِ، وَالْإِفْطَارِ، وَالْيَمِينِ عِنْدَنَا، فَيَصِحُّ الْتِزَامُهُ بِالنَّذْرِ، فَيَلْزَمُهُ كَمَا الْتَزَمَ، فَإِذَا تَرَكَ فَلَمْ يَأْتِ بِالْمُلْتَزَمِ؛ فَيَسْتَقْبِلُ كَمَا فِي صَوْمِ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَالْقَتْلِ.
فَأَمَّا هاهنا فَمَا أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ صَوْمًا مُتَتَابِعًا، وَإِنَّمَا وَجَبَ عَلَيْهِ التَّتَابُعُ لِضَرُورَةِ تَجَاوُرِ الْأَيَّامِ؛ لِأَنَّ أَيَّامَ الشَّهْرِ مُتَجَاوِرَةٌ، فَكَانَتْ مُتَتَابِعَةً فَلَا يَلْزَمُهُ إلَّا قَضَاءُ مَا أَفْطَرَ، كَمَا لَوْ أَفْطَرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا قَضَاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ صَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ مُتَتَابِعًا لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا؛ وَلِأَنَّا لَوْ أَلْزَمْنَاهُ الِاسْتِقْبَالَ لَوَقَعَ أَكْثَرُ الصَّوْمِ فِي غَيْرِ مَا أُضِيفَ إلَيْهِ النَّذْرُ، وَلَوْ أَتَمَّ وَقَضَى يَوْمًا لَكَانَ مُؤَدِّيًا أَكْثَرَ الصَّوْمِ فِي الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ، فَكَانَ هَذَا أَوْلَى، وَلَوْ أَفْطَرَ رَجَبًا كُلَّهُ قَضَى فِي شَهْرٍ آخَرَ؛ لِأَنَّهُ فَوَّتَ الْوَاجِبَ عَنْ وَقْتِهِ فَصَارَ دَيْنًا عَلَيْهِ، وَالدَّيْنُ مَقْضِيٌّ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِهَذَا وَجَبَ قَضَاءُ رَمَضَانَ إذَا فَاتَ عَنْ وَقْتِهِ؛ وَلِأَنَّ الْوُجُوبَ عِنْدَ النَّذْرِ بِإِيجَابِ اللَّهِ- عَزَّ شَأْنُهُ- فَيُعْتَبَرُ بِالْإِيجَابِ الْمُبْتَدَأِ وَمَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ- تَعَالَى عَزَّ شَأْنُهُ- عَلَى عِبَادِهِ ابْتِدَاءً لَا يَسْقُطُ عَنْهُ إلَّا بِالْأَدَاءِ أَوْ بِالْقَضَاءِ كَذَا هَذَا وَاَللَّهُ- تَعَالَى عَزَّ شَأْنُهُ- أَعْلَمُ.